الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ هذه الآية: قوله في حديث عدي بن حاتم: (اتخذوا). الضمير يعود للنصارى، لأن اليهود لم يتخذوا المسيح أبن مريم إلهًا، بل أدعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وأدعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصاري جميعًا ويختص النصاري باتخاذ المسيح ابن مريم، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها. قوله: (أحبارهم ورهبانهم). الأحبار: جمع حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها، وهو العالم الواسع العلم، والرهبان: جمع راهب، وهو العابد الزاهد. قوله: قوله " قوله: (إلهًا واحدًا). هو الله عز وجل، وإله، أي: مألوه معبود مطاع، وليس بمعني آله، أي: قادر على الاختراع، فإن هذا المعني فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم، فيكون معنى قوله: {سبحانه عما يشركون}. " سبحان ": أسم مصدر، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبًا تقديره يسبح سبحانًا، أي: تسبيحًا، لأن أسم المصدر بمعني المصدر، فسبحان: مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبًا وهي ملازمة للإضافة: إما إلى مضمر، كما في الآية: (سبحانه)، أو إلى مظهر، كما في (سبحان الله). والتسبيح: التنزيه، أي: تنزيه الله عن كل نقص، ولا يحتاج أن نقول: ومماثلة المخلوقين، لأن المماثلة نقص، ولكن إذا قلناها، فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى: تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين. وقوله: (عما يشركون). أي: مما سواه من المسيح ابن مريم والأحبار والرهبان، فهو متنزه عن كل شرك وعن كل مشرك به. وقوله: (عما يشركون) هذا من البلاغة في القرآن لأنها جاءت محتملة أن تكون " ما " مصدرية، فيكون المعنى عن شركهم، أو موصولة، ويكون المعني: سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة للأمرين، فتكون شاملة لهما لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض، فيكون التنزية الشرك وعن المشرك به. قوله: " إنا لسنا نعبدهم ". أي: لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم ولا نركع ولا نذبح ولا ننذرهم لهم، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان بدليل قوله: فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدًا، لأنه رسول الله، فما أحله، فقد أحله الله، وما حرمه، فقد حرمه الله، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعني مع ضعف سنده، والحديث حسنه الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون. ويجاب على التعليل المذكور بأن قول عدي: (لسنا نعبدهم) يعود على الأحبار والرهبان، أما عيسى ابن مريم، فالمعروف أنهم يعبدونه. وبدأ بتحريم الحلال، لأنه أعظم من تحليل الحرام، وكلاهما محرم، لقوله تعالى: قوله: " فتلك عبادتهم ". ووجه كونها عبادة: أن من معني العبادة الطاعة، وطاعة غير الله عبادة الله عبادة للمطاع، ولكن بشرط أن تكون في غير طاعة الله، أما إذا كانت في طاعة الله، فهي عبادة لله، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت، فلا تكون قد أباك أبوك بطاعتك له، ولكن عبدت الله، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله، ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره هو امتثال لأمر الله. * ويستفاد من الحديث: 1- أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة. 2- أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع، أما في عبادة الله، فهي عبادة الله. 3- أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابًا. وأعلم أن أتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يتابعهم في ذلك راضيًا بقولهم، مقدمًا له، ساخطًا لحكم الله، فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله فأحبط الله عمله، ولا تحبط الاعمال إلا بالكفر، فكل من كره ما أنزل الله، فهو كافر. الثاني: أن يتابعهم في ذلك راضيًا بحكم الله وعالمًا بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد، ولكن لهوي في نفسه أختاره، كأن يريد مثلًا وظيفة، فهذا لا يكفر، ولكنه فاسق وله حكم غيره من العصاة. الثالث: أن يتابعهم جاهلًا، فيظن أن ذلك حكم الله، فينقسم إلى قسمين: أ- أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه، فهو مفرط أو مقصر، فهو آثم، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم. ب- أن لا يكون عالمًا ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدًا ويظن أن هذا هو الحق، فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذورًا بذلك، ولذلك ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: إن فإن قيل: لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني؟ أجيب: إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله. * فائدة: وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف: 1- قال تعالى: 2- وقال تعالى: 3- وقال تعالى: وأختلف أهل العلم مع ذلك: فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد، لأن الكافر ظالم، لقوله تعالى: وقيل: إنها لموصوفين مُتعدِّدين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح. فتكون كافرًا في ثلاثة أحوال: أ)- إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: ب) إذا أعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله. ج) إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله. بدليل قوله تعالى: ويكون ظالمًا: إذا أعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وانه الواجب تطبيقة، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهو ظالم. ويكون فاسقًا: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوي في نفسه مع اعتقادة أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوي في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهية لحم الله ولا ليضر أحدًا به، مثل: أن يحكم لشخص لرشوة رُشِيَ إياها، أو لكونها قريبًا أو صديقًا، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق، وإن كان أيضًا ظالمًا، لكن وصف الفسق في حقه أولي من وصف الظلم. أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر. ولكن قد يكون الواضع له معدورًا، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس. فيوجد بعض العلماء وإن كانوا مخطئين يقولون: إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه، فإذا اقتضي الحال أن نضع بنوكًا للربا أو ضرائب على الناس، فهذا لا شيء فيه. وهذا لا شك في خطئه، فإن كانوا مجتهدين غفر الله لهم، وإلا، فهم على خطر عظيم، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء المللة. ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها، فالشرع كامل من جميع الوجوه، قال تعالى: وكيف يقال: إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس؟! وأنا لا أقول: نأخذ بكل ما قاله الفقهاء، لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يوجد حال من الإحوال تقع بين الناس إلا في كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم، وهذا قصور، أو نقص التدبر، وهذا تقصير. أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق، فلابد أن يصل إليه حتى في المعاملات، قال تعالى: ومن سَنَّ قوانين تخالف الشريعة وأدَّعي أنها من المصالح المرسلة، فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن أعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها، فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمي بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع، فهو مصلحة، وما نفاه، فليس بمصلحة، وما سكت عنه، فهو عفو. والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها، كعيد ميلاد الرسول، فزعموا أن فيه شحذًا للهمم وتنشيطًا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا باطل، لأن جميع المسلمين في كل صلاة يشهدون أن محمدًا عبده ورسوله ويصلون عليه، والذي لا يحيى قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحيي قلبه بساعة يؤتي فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ ! فهذه مفسدة وليست بمصلحة. فالمصالح المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار، فلا شك أن مرادهم نصر الله ورسوله، ولكن استخدمت هذه المصالح في غير ما أراده أولئك العلماء وتوسع فيها، وعليه، فإنها تقاس بالمعيار الصحيح، فإن أعتبرها الشرع قبلت، وإلا، فكما قال الإمام مالك: وليعلم أن يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام، فلا يتسرع في البت بها خصوصًا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا رَويَّة، مع أن الإنسان إذا كفر شخصًا ولم يكن الشخص أهلًا له، عاد ذلك إلى قائله، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة، فيكون مباح الدم والمال، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا َنجبُن عن تكفير من كفره الله ورسوله، ولكن يجب أن نفرق بين المُعَيّن وغير المُعَيَّن، فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين: 1) ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر. 2) انطباق شروط التكفير عليه، وأهمها العلم بأن هذا مُكفِّر، فإن كان جاهلًا، فإنه لا يكفر، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد أن يكون عالمًا بالتحريم، هذا وهو إقامة حد وليس بتكفير، والتحرز من التكفير أولى وأحرى. قال تعالى: * فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: التنبية على معني العبادة التي أنكرها عدي. الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمي الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عُبِدَ من دون الله من ليس من الصالحين، وعُبِدَ بالمعني الثاني من هو من الجاهلين. * فيه مسائل: * الأولى: تفسير آية النور. وهي قوله تعالى: * الثانية: تفسير آية براءة. وهي قوله تعالى: * الثالثة: التنبية على معني العبادة التي أنكرها عبدي. لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبهه، لكن بيَّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. * الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان: أي: إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يُعَارَض قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقولهما ، فما بالك بمن عارض قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول من دونهما؟ ! فهو أشد وأقبح، وكذلك مثل الإمام أحمد بسفيان الثوري وأنكر على مَن أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، واستدل بقوله تعالى: * الخامسة: تحول الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال.. إلخ. يقول المؤلف رحمة الله تعالى: تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عن الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال.. وهذا لا شك أنه أشد من معارضة قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقول أبي بكر وعمر. ثم قال: " ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين "، أي: يركع ويسجد له، ويعظم تعظيم الرب، ويوصف بما لا يستحق، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر. ثم قال: "وعبد بالمعني الثاني ": وهو الطاعة والاتباع مَن هو من الجاهلين، فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئًا، فصاروا يعبدون بهذا المعني، فيطاعون في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله. وهذا في زمان المؤلف، فكيف بزماننا؟ ! وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أنه قال: والناس لا يُحسُّون بالتغير، لأن الأمور تأتي رويدًا رويدًا، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء، لوجد التغير الكثير المزعج نسأل الله السلامة، فعلينا الحذر، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يُحمَى وأن يُصان، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أبدًا مهما كانت منزلته، وأن الواجب أن نكون عبادًا لله عز وجل تذللًا وتعبدًا وطاعة.
***
|